فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ في مَوْجٍ كالجبال} هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دلّ عليها الأمر بالركوب، والتقدير: فركبوا مسمين، وهي تجرى بهم، والموج: جمع موجة، وهي: ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض.
قوله: {ونادى نُوحٌ ابنه} هو: كنعان، قيل: وكان كافرًا، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافرًا مع قوله: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26]، وأجيب بأنه كان منافقًا، فظن نوح أنه مؤمن.
وقيل: حملته شفقة الأبوّة على ذلك.
وقيل: إنه كان ابن امرأته، ولم يكن بابنه، ويؤيده ما روي أن عليًا قرأ: {ونادى نوح ابنها}. وقيل: إنه كان لغير رشدة، وولد على فراش نوح.
وردّ بأن قوله: {ونادى نُوحٌ ابنه}، وقوله: {إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوّة: {وَكَانَ في مَعْزِلٍ} أي: في مكان عزل فيه نفسه عن قومه، وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح: اركبوا فيها، وقيل: في معزل من دين أبيه، وقيل: من السفينة.
قيل: وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق، بل كان في أوّل فور التنور.
قوله: {مَعْزِلٍ يابنى اركب مَّعَنَا} قرأ عاصم بفتح الياء، والباقون بكسرها، فأما الكسر فلجعله بدلًا من ياء الإضافة، لأن الأصل يا بنيّ، وأما الفتح فلقلب ياء الإضافة ألفًا لخفة الألف، ثم حذف الألف وبقيت الفتحة لتدلّ عليه.
قال النحاس: وقراءة عاصم مشكلة.
وقال أبو حاتم: أصله يا بنياه ثم تحذف، وقد جعل الزجاج للفتح وجهين، وللكسر وجهين.
أما الفتح بالوجه الأوّل ما ذكرناه، والوجه الثاني: أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين.
وأما الكسر، فالوجه الأوّل ما ذكرناه، والثاني: أن تحذف لالتقاء الساكنين، كذا حكى عنه النحاس.
وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وحفص: {اركب مَّعَنَا} بادغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج.
وقرأ الباقون بعدم الإدغام: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} نهاه عن الكون مع الكافرين: أي خارج السفينة، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم.
ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه، فقال: {قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} أي: يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إليّ، فأجاب عنه نوح بقوله: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} أي: لا مانع، فإنه يوم قد حقّ فيه العذاب وجفّ القلم بما هو كائن فيه، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجًا أوّليًا، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيمًا لشأنه، وتهويلًا لأمره.
والاستثناء قال الزجاج: هو منقطع: أي: لكن من رحمه الله فهو يعصمه، فيكون: {مَن رَّحِمَ} في موضع نصب، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا على أن يكون عاصم بمعنى معصوم: أي: لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله: مثل: {مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 6]: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] ومنه قول الشاعر:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

أي: المطعم المكسوّ، واختار هذا الوجه ابن جرير؛ وقيل: العاصم بمعنى ذي العصمة، كلابن وتامر، والتقدير: لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله، وهو السفينة، وحينئذ فلا يرد ما يقال: إن معنى من رحم من رحمه الله، ومن رحمه الله هو معصوم، فكيف يصحّ استثناؤه عن العاصم؟ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعًا للإشكال.
وقرئ: {إلا من رحم} على البناء للمفعول: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} أي: حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق.
وقيل: بين ابن نوح، وبين الجبل، والأوّل: أولى، لأن تفرّع: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} عليه يدل على الأوّل لا على الثاني، لأن الجبل ليس بعاصم.
قوله: {وَقِيلَ يا أرض ابلعى مَاءكِ} يقال: بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع، وبلع يبلع، مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء: والبلع: الشرب، ومنه البالوعة، وهي: الموضع الذي يشرب الماء، والازدراد، يقال: بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج: {ويا سماء أَقْلِعِى} الإقلاع: الإمساك، يقال: أقلع المطر: إذا انقطع.
والمعنى: أمر السماء بامساك الماء عن الإرسال، وقدّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها: {وَغِيضَ الماء} أي: نقص، يقال: غاض الماء وغضته أنا: {وَقُضِىَ الأمر} أي: أحكم وفرغ منه: يعني: أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام: {واستوت عَلَى الجودى} أي: استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجودي، وهو جبل بقرب الموصل؛ وقيل: إن الجودي: اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ** وقبلنا سبح الجوديّ والجمد

ويقال: إنه من جبال الجنة، فلذا استوت عليه: {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} القائل: هو الله سبحانه، ليناسب صدر الآية.
وقيل: هو نوح وأصحابه.
والمعنى: وقيل هلاكًا للقوم الظالمين، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك، وللإيماء إلى قوله: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ}.
وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة، الثابتين الأقدام في علم البيان، الراسخين في علم اللغة، المطلعين على ما هو مدوّن من خطب مصاقع خطباء العرب، وأشعار بواقع شعرائهم، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها.
وقد تعرّض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم، فأطالوا وأطابوا، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} قال عملي: {وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ} أي: مما تعملون.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ} وذلك حين دعا عليهم نوح قال: {لا تَذَكَّرَ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26].
وأخرج أحمد في الزهد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: إن نوحًا لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه، فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم، فدعا عليهم.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} قال: فلا تحزن.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، عنه، في قوله: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} قال: بعين الله ووحيه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، أيضًا قال: لم يعلم نوح كيف يصنع الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعملها سفينة، ويمرّون فيسألونه، فيقول: أعملها سفينة، فيسخرون منه، ويقولون: يعمل سفينة في البرّ، وكيف تجري؟ قال: سوف تعلمون، فلما فرغ منها وفار التنور، وكثر الماء في السكك خشيته أمّ الصبي عليه، وكانت تحبه حبًا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أمّ الصبيّ». وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم. وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث، وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} قال: هو: الغرق: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} قال: هو الخلود في النار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عنه، قال: كان بين دعوة نوح وبين هلاك قومه ثلثمائة سنة، وكان فار التنور بالهند، وطافت سفينة نوح بالبيت أسبوعًا.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أيضًا قال: التنور: العين التي بالجزيرة عين الوردة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عليّ بن أبي طالب، قال: فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة. وقد روي عنه نحو هذا من طرق.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: التنور: وجه الأرض، قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك.
والعرب تسمى وجه الأرض تنور الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عليّ: {وَفَارَ التنور} قال: طلع الفجر، قيل له: إذا طلع الفجر فاركب أنت وأصحابك.
وقد روي في تفسير التنور غير هذا، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك. وروي في صفة القصة، وما حمله نوح في السفينة، وكيف كان الغرق، وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة، لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} قال حين يركبون ويجرون ويرسون.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال: كان إذا أراد أن ترسي قال: بسم الله، فأرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت.
وأخرج أبو يعلى، والطبراني، وابن السني، وابن عديّ، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن الحسن بن عليّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: بسم الله الملك الرحمن، بسم الله مجراها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم: {وما قدروا الله حق قدره} إلى آخر الآية [الزمر: 67]».
وأخرجه ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عباس، عن النبيّ.
وأخرجه أيضًا أبو الشيخ، عنه، مرفوعًا من طريق أخرى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس قال: هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة، في قوله: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إلا مَن رَّحِمَ} قال: لا ناج إلا أهل السفينة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن القاسم بن أبي برّة، في قوله: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} قال: بين ابن نوح والجبل.
وأخرج ابن المنذر، وعن عكرمة في قوله: {يا أرض ابلعى} قال: هو بالحبشية.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب بن منبه، في: {ابلعي} قال بالحبشية: أي ازدرديه.
وأخرج أبو الشيخ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: معناه: اشربي، بلغة الهند.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس مثله. أقول: وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب: ظاهر مكشوف، فما لنا وللحبشة والهند. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}
هَذِهِ الْآيَاتُ هِيَ الْحُكْمُ الْفَصْلُ فِي قَوْمِ نُوحٍ الْمُشْرِكِينَ، وَيَلِيهَا بَيَانُ تَنْفِيذِهِ {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} أَيْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَا أَيْأَسَهُ مِنْ إِيمَانِ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِهِ بَعْدَ الْآنِ، غَيْرَ مَنْ قَدْ آمَنَ مِنْ قَبْلُ مِنْهُمْ، فَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى إِيمَانِهِمْ دَائِمُونَ عَلَيْهِ: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أَيْ فَلَا يَشْتَدَّنَّ عَلَيْكَ الْبُؤْسُ وَالْحُزْنُ وَاحْتِمَالُ الْمَكَارِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فِي السِّنِينَ الطِّوَالِ، مِنْ تَكْذِيبِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لَكَ وَلِمَنْ آمَنَ لَكَ، إِذْ كُنْتَ تَعْرِضُ لَهُ وَتَسْتَهْدِفُ لِسِهَامِهِ؛ رَجَاءً فِي إِيمَانِهِمْ وَاهْتِدَائِهِمْ، فَأَرِحْ نَفْسَكَ بَعْدَ الْآنِ مِنْ جِدَالِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ، فَقَدْ آنَ زَمَنُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} الْفُلْكُ: السَّفِينَةُ، يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ تَعْرِيفِهِ هُنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، أَيْ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ الَّذِي سَنُنَجِّيكَ وَمَنْ آمَنَ مَعَكَ فِيهِ حَالَ كَوْنِكَ مَلْحُوظًا وَمُرَاقَبًا بِأَعْيُنِنَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَمَا يَلْزَمُهُ مَنْ حِفْظِنَا فِي كُلِّ آنٍ وَحَالِهِ، فَلَا يَمْنَعْكَ مِنْهُ مَانِعٌ، وَمُلْهَمًا أَوْ مُعَلَّمًا بِوَحْيِنَا لَكَ كَيْفَ تَصْنَعُهُ، فَلَا يَعْرِضُ لَكَ فِي صِفَتِهِ خَطَأٌ، وَجَمَعَ الْأَعْيُنَ هُنَا لِإِفَادَةِ شِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْحِفْظِ، وَإِنْ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ {بِعَيْنِي وَوَحْيِي} فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْعِنَايَةِ وَبِالْأَعْيُنِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 20: 39 وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (52: 48) وَفِي الْأَسَاسِ: وَتَقُولُ لِمَنْ بَعَثْتَهُ وَاسْتَعْجَلْتَهُ: (بِعَيْنٍ مَا أَرَيَنَّكَ) أَيْ لَا تَلُوِ عَلَى شَيْءٍ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ اهـ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا الْعِنَايَةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُهَا ** نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ

وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ بَلِ الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا التَّعْبِيرِ، وَلَيْسَ تَأْوِيلًا صُرِفَ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ لِإِيهَامِهِ التَّشْبِيهَ، فَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ لِمَانِعٍ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى الرَّاجِحِ، وَهُوَ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَيْ لَا تُرَاجِعْنِي فِي أَمْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ طَلَبِ الرَّحْمَةِ بِهِمْ وَدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَقَضَى عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ الْحَتْمُ بِالْإِغْرَاقِ، فَلَا تَأْخُذْكَ بِهِمْ رَأْفَةٌ وَلَا إِشْفَاقٌ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَلَا تُخَاطِبْنِي بَعْدُ فِي اسْتِعْجَالِ تَعْذِيبِهِمْ وَتَكْرَارِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَيُرَجِّحُ هَذَا إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ بَعْدَ إِعْلَامِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي آخِرِ سُورَتِهِ: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (71: 26- 28) أَيْ هَلَاكًا.
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} أَيْ وَطَفِقَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} اسْتَهْزَءُوا بِهِ وَضَحِكُوا مِنْهُ وَتَنَادُرًا عَلَيْهِ لِحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُ مُصَابٌ بِالْهَوَسِ وَالْجُنُونِ، يُقَالُ: سَخِرَ مِنْ فُلَانٍ وَسَخِرَ بِهِ {كَتَعِبَ} أَيِ اتَّخَذَهُ سُخْرِيًّا {بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا} يَهْزَأُ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَصْنَعُ فَيُجِيبُهُمْ أَنَّهُ يَصْنَعُ بَيْتًا يَجْرِي عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَعْرُوفًا وَلَا مُتَصَوَّرًا، وَقَلَّ أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِمَا هُوَ فَوْقَ عُقُولِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إِلَّا سَخِرُوا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُ النَّجَاحُ فِيهِ: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} قَالَ مُجِيبًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا وَتَسْتَجْهِلُونَنَا الْيَوْمَ لِرُؤْيَتِكُمْ مِنَّا مَا لَا تَتَصَوَّرُونَ لَهُ فَائِدَةً: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} مِنَّا جَزَاءً وِفَاقًا، نَسْخَرُ مِنْكُمُ الْيَوْمَ لِجَهْلِكُمْ، وَغَدًا لِمَا يَحِلُّ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ بِمَا نَعْمَلُ وَبِمَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ عَمَلِنَا.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} بَعْدَ تَمَامِهِ {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أَيْ يُذِلُّهُ وَيَجْلِبُ لَهُ الْعَارَ وَالتَّبَارَ فِي الدُّنْيَا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ عَذَابُ الدُّنْيَا هَيِّنًا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ لِانْقِضَاءِ هَذَا وَزَوَالِهِ بِهَلَاكِكُمْ، وَبَقَاءِ ذَلِكَ وَدَوَامِهِ بِدَوَامِكُمْ.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} هَذَا بَيَانٌ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مِمَّا ذَكَرَ قَبْلَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِهَلَاكِ قَوْمِ نُوحٍ، أَيْ: وَكَانَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ كَمَا أُمِرَ، وَيُقَابِلُ السُّخْرِيَةَ بِغَيْرِ ابْتِئَاسٍ وَلَا ضَجَرٍ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتُ أَمْرِنَا بِهَلَاكِهِمْ {وَفَارَ التَّنُّورُ} اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ- تَعَالَى-، فَهُوَ مَجَازٌ كَحَمِيَ الْوَطِيسُ، أَوْ فَارَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ عِنْدَ نُوحٍ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَالتَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ الْخَبْزُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ. قِيلَ: إِنَّ التَّاءَ أَصْلِيَّةٌ فِيهِ، وَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ فِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَهُ حَوَّاءُ أُمُّ الْبَشَرِ وَأَنَّ تَنُّورَهَا بَقِيَ إِلَى زَمَنِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يُوثَقُ بِهِ، وَالْفَوْرُ وَالْفَوَرَانُ ضَرْبٌ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالِارْتِفَاعِ الْقَوِيِّ، يُقَالُ فِي الْمَاءِ إِذَا نَبَعَ وَجَرَى، وَإِذَا غَلَا وَارْتَفَعَ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: فَارَتِ الْقِدْرُ، وَفَارَتْ فَوْرَاتُهَا، وَعَيْنٌ فَوَّارَةٌ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، وَفَارَ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ. وَمِنَ الْمَجَازِ: فَارَ الْغَضَبُ، وَأَخَافُ أَنْ تَفُورَ عَلَيَّ، وَقَالَ ذَلِكَ فِي فَوْرَةِ الْغَضَبِ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ: الْفَوْرُ شِدَّةُ الْغَلَيَانِ، وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي النَّارِ نَفْسِهَا إِذَا هَاجَتْ، وَفِي الْقَدْرِ وَفِي الْغَضَبِ، نَحْوَ: {وَهِيَ تَفُورُ} 67: 7 {وَفَارَ التَّنُّورُ} .اهـ.